الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
وهو توحيد الطلب والقصد وأنه معنى لا إله إلا الله هَذَا وَثَانِي نَوْعَي التوْحِيدِ *** إِفْرادُ رَبِّ الْعرْشِ عنْ نَديدِ أَنْ تَعْبُدَ الله إِلهاً وَاحِدَا *** مُعْتَرِفاً بِحَقِّهِ لاَ جَاحِدَا (هذا) أي الأمر والإشارة إلى ما تقدم من تحقيق النوع الأول من نوعي التوحيد (وثاني نوعي التوحيد) هو (إفراد رب العرش عن نديد) شريك مساو، (السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (الرعد: 2- 4). وقال تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا الله فاتقون خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)- إلى قوله- (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (النحل: 1- 17) إلى آخر السورة. وقال تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى) (طه: 49- 54) وقال تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) (الأنعام: 40- 41) وقال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) (يونس: 12). وقال تعالى: (وهو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلى ربكم مرجعكم فينبؤكم بما كنتم تعملون) (يونس: 22- 23) وقال تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتنا معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) (الأنبياء: 30- 33) وقال تبارك وتعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) (المؤمنون: 84- 92) وقال تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) (النور: 42- 45). وقال تعالى: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) (الشعراء: 7- 9) وقال تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون) (النمل: 59) إلى قوله: (أم من يبدأ) وتفسير ذلك هو (أن تعبد الله) سبحانه وتعالى (إلها) حال من لفظ الجلالة (واحدا) لا شريك له في إلهيته كما لا شريك له في ربوبيته وأسمائه وصفاته، فإن توحيد الإثبات هو أعظم حجة على توحيد الطلب والقصد الذي هو توحيد الإلهية وبه احتج الله تعالى في كتابه في غير موضع على وجوب إفراده تعالى بالإلهية لتلازم التوحيدين، فإنه لا يكون إلها مستحقا للعبادة إلا من كان خالقا رازقا مالكا متصرفا مدبرا لجميع الأمور حيا قيوما سميعا بصيرا عليما حكيما موصوفا بكل كمال منزها عن كل نقص، غنيا عما سواه، مفتقرا إليه كل ما عداه فاعلا مختارا لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا تخفى عليه خافية، وهذه صفات الله عز وجل لا تنبغي إلا له ولا يشركه فيها غيره. فكذلك لا يستحق العبادة إلا هو ولا تجوز لغيره فحيث كان متفردا بالخلق والإنشاء والبدء والإعادة لا يشركه في ذلك أحد وجب إفراده بالعبادة دون من سواه لا يشرك معه في عبادته أحد كما قال تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) (البقرة: 21- 22). وقال تبارك وتعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) إلى قوله: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأني تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (يونس: 31- 35) وقال تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنن والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) (يونس: 3- 5). وقال تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) (الأعراف: 54) وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) (الأنعام: 1- 3) وقال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم فينبؤكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) (الأنعام: 59- 64). وقال تعالى: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) (الأنعام: 164- 165) إلى آخرها. وقال تعالى: (أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (النمل: 64) وقال تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إنه بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) (العنكبوت: 60- 63) وقال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) (العنكبوت: 65). وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد)- إلى قوله- (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور فإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) (لقمان: 25- 32) إلى آخرر السورة. وقال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور) (الحج: 63- 66) وقال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأ لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون) (المؤمنون: 12- 22). وقال تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون) (السجدة: 4) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) (سبأ: 1- 2) وقال تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) (فاطر: 1- 2) وقال تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين) (الروم: 48- 49) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)- إلى قوله- (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك) (فاطر: 9- 13) إلى آخر الآيات، بل إلى آخر السورة. وقال تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحان الله وتعالى عما يشركون) (الروم: 40). وقال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) (الزمر: 8) وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) (الزمر: 38) وقال تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) (غافر: 61- 64) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) (فصلت: 9- 12) وقال: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) (الزخرف: 9- 13) الآيات. وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) (الزخرف: 87) وغير ذلك من الآيات التي يقرر الله تعالى فيها ربوبيته ويمتن بنعمه وتفرده بأنواع التصرفات، وعباد الأوثان يقرون بها لله عز وجل ويقرون بأن أوثانهم التي يدعون من دونه مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئا، ويقرون أن الله هو المتفرد بالخلق والرزق والضر والنفع والتقدير والتدبير وأنواع التصرفات ليس إليهم ولا إلى أوثانهم من ذلك شيء، بل هو الخالق وما عداه مخلوق، وهو الرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء سووهم به في استحقاق العبادة وأنكروا أن يكون تفرد بها وقالوا لمن قال لهم قولوا لا إله إلا الله: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) (ص: 5) فألزمهم الله تعالى بما أقروا به من التفرد بالربوبية أن يعملوا بمقتضى ذلك ويلتزموا لازمه من توحيد الإلهية وأن يكفروا بما اتخذوا من دونه كما أقروا بعجزهم وعدم اتصافهم بشيء يستحقون به العبادة، بل هم أقل وأذل وأحقر وأعجز عن أن يخلقوا ذبابا أو يستنقذوا منه شيئا سلبه. ومن تدبر هذه الآيات التي ذكرنا وما في معناها حق التدبر علم يقينا أن عباد الأوثان مقرون بتوحيد الربوبية وشاهدون بتفرد الله بذلك وأنهم إنما أشركوا بالله تعالى في الإلهية حيث عبدوا معه غيره هذا في الظاهر وإلا فأنواع التوحيد متلازمة، من أشرك غير الله معه في شيء منها فقد أشرك فيما عداه كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في بيان الشرك. ومما يقدر ذلك غاية التقدير حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه حصين قبل إسلامه: " كم تعبد اليوم من إله؟ " قال: سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحدا في السماء. قال صلى الله عليه وسلم: " فمن تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء. وتقدم أيضا في هذه الآية أنهم إنما كان شركهم بالله في إلهيته في حالة الرخاء وأما في الشدة فكانوا يخلصون الدين لله لعلمهم أنه لا يقدر على كشف ما هم فيه غيره وأن آلهتهم لا تضر ولا تنفع ولا تستطيع شيئا كما قال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) (العنكبوت: 65- 66) وما في معانيها من الآيات مما ذكرنا ومما لم نذكر والمقصود أن الربوبية والإلهية متلازمان لا ينفك نوع منهما عن الآخر، وأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إلا مكابرة كفرعون ونمرود، والثنوية الذين اعتقدوا للوجود خالقين اثنين، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. (معترفا) حال من فاعل تعبد (بحقه) تعالى عليك، وعلى جميع عباده (لا جاحدا) وحقه عليك أن تعبده لا تشرك به شيئا، كما قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) (النساء: 23) وقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (الإسراء: 23) وقال تعالى: (أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (المؤمنون: 32) وغيرها من الآيات سنذكر ما تيسر منها قريبا إن شاء الله تعالى. وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: " يا معاذ، أتدري ما حق الله تعالى على العباد وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " الحديث. وهو الذي به الإله أرسلا *** رسله يدعون إليه أولا وأنزل الكتاب والتبيانا *** من أجله وفرق الفرقانا (وهو) أي توحيد الإلهية الذي به الإله عز وجل (أرسلا رسله) من أولهم إلى آخرهم (يدعون إليه أولا) قبل كل أمر فلم يدعوا إلى شيء قبله، فهم وإن اختلفت شرائعهم في تحديد بعض العبادات والحلال والحرام، لم يختلفوا في الأصل الذي هو إفراد الله سبحانه بتلك العبادات افتقرت أو اتفقت، لا يشرك معه فيها غيره، كما قال صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد " وقد أخبر الله عز وجل عن اتفاق دعوة رسله إجمالا وتفصيلا فقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13) وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك بقية الرسل. وقال تعالى: (واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) (الزخرف: 45) وقال تعالى: (وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء: 25) وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (النحل: 36). وقال تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) (النساء: 163- 165). وفي الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين. ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة ". وأما في مقامات التفصيل فقال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) (الأعراف: 59) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) (الأعراف: 65) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (الأعراف: 73) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (الأعراف: 85). وقال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من المؤمنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون) (الأنعام: 74- 78) وهذا في مقام مناظرته عليه السلام لعباد الكواكب على سبيل الاستدراج أو التوبيخ ليبين لهم سخافتهم وجهلهم وضعف عقولهم في عبادتهم هذه الكواكب المخلوقة لحكمة الله عز وجل المسخرة بقدرته وغفلتهم عن خالقها ومسخرها والمتصرف فيها وتركهم عبادته أو إشراكهم معه فيها غيره عز وجل فلما أقام عليهم الحجة: (قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) (الأنعام: 78- 82) أي الذين آمنوا يعني صدقوا ووحدوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي شرك إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله عز وجل، وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: 13) فالذين آمنوا الإيمان التام الذي لم تشبه شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه، ولا الشرك الأصغر المنافي لكماله، ولا معاصي الله المحبطة لثمراته من الطاعات، فأولئك لهم الأمن التام من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والاهتداء التام في الدنيا والآخرة. وبحسب ما ينقص من الإيمان ينقص من الأمن والاهتداء، وباجتناب الشرك الأكبر والأصغر يحصل مطلق الأمن والاهتداء، وباجتناب المعاصي يحصل تمامهما. ثم قال تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) (الأنعام: 83) وقال تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعلهم كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (الأنبياء: 51- 67) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) (الشعراء: 69- 82) وقال تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم) (الصافات: 83- 97) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا) (مريم: 41- 45). فبين لأبيه أن آلهته لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تقدر على جلب خير ولا دفع شر ولا تغني عنه شيئا. فتبين بذلك أن عبادة مثل هذا جهل وضلال. ثم بين له أن عنده دواء ذلك الداء والهدى من ذلك الضلال فقال تعالى: (إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) وبين أن فعله ذلك عبادة للشيطان، موجب لعذاب الرحمن وولاية الشيطان، عياذا بالله من ذلك. وقال تعالى: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) (العنكبوت: 15- 17) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) (الزخرف: 26- 28) وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) (يوسف: 37- 40) الآيات وغيرها. وكذلك قص الله تعالى علينا عن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (إبراهيم: 9- 12) الآيات. ولو ذهبنا نذكر قصص الرسل ومحاورتهم مع قومهم وعواقب ذلك لطال الفصل. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته في قومه وصبره على أذاهم وما جرى له معهم فأجلى من الشمس في نحر الظهيرة والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته في شأن ذلك. (وأنزل) الله عز وجل (الكتاب) اسم جنس لكل كتاب أنزلَه الله عز وجل على رسله وأشهرها الأربعة وهي: التوراة على موسى موعظة وتفصيلا لكل شيء. والإنجيل على عيسى فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. والزبور على داود الذي كان إذا قرأه أوبت معه الجبال والطير. والقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه. (والتبيانا) من عطف التفسير الذي هو أعم من المفسر لأن التبيان منه المتعبد بتلاوته والعلم به وهو الكتاب. ومنه المتعبد بالعمل به فقط وهو السنة وما في معناها. (من أجله) أي من أجل التوحيد (وفرق الفرقانا) إذ يقول تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) (الإسراء: 106) الآيات. وسنذكر إن شاء الله تعالى أصل عبادة الأصنام وغيرها في فصل بيان ضد التوحيد الذي هو الشرك، وبالله التوفيق. وكلف الله الرسول المجتبى *** قتال من عنه تولى وأبى حتى يكون الدين خالصا له *** سرا وجهرا دقه وجله وهكذا أمته قد كلفوا *** بذا وفي نص الكتاب وصفوا (وكلف الله) تعالى أي أمر أمر افتراض (الرسول المجتبى) نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (قتال) مفعول كلف الثاني (من عنه) عن التوحيد (تولى وأبى) أي أعرض وامتنع (حتى) غاية للقتال (يكون الدين خالصا له) أي الله عز وجل سرا وجهرا لا معارض له ولا مشاق (دقه وجله) أي قليل العبادة وكثيرها وصغيرها وكبيرها. قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) (التوبة: 73) الآية. وقال تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) (النساء: 84) وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (البقرة: 193) وقال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) (الأنفال: 38- 40). وقال تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا) (التوبة: 5) يعني رجعوا عن الشرك بالتوحيد (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) وغير ذلك من الآيات في البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة والقتال والحديد والصف وغيرها، وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل " الحديث في الصحيح. ولو ذهبنا نذكر آيات الجهاد وأحاديثه لطال الفصل وليس هذا موضع بسطها. (وهكذا) كما كلف صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار (أمته) المستجيبون له (قد كلفوا بذا) أي الذي كلف به (وفي نص الكتاب) القرآن (وصفوا) أي بذلك؛ كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا) (الفتح: 29) الآية. وقال تعالى: (يا آيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (المائدة: 54) والآيات قبلها وبعدها، ولو لم يكن في ذلك إلا قول ربي عز وجل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (التوبة: 111) لكانت هذه الآية كافية في نعش القلوب وتهييج النفوس وتشويقها وحملها على تلك البيعة الرابحة التي لا خطر لها ولا يحاط بعظم فضلها، والله المستعان. فضل شهادة أن لا إله إلا الله وقد حوته لفظة الشهادة *** فهي سبيل الفوز والسعادة من قالها معتقدا معناها *** وكان عاملا بمقتضاها في القول والفعل ومات مؤمنا *** يبعث يوم الحشر ناج آمنا (وقد حوته) أي جمعته واشتملت عليه (لفظة الشهادة) أي شهادة أن لا إله إلا الله (فهي) أي هذه الكلمة (سبيل الفوز) بدخول الجنة والنجاة من النار، قال الله عز وجل: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) (آل عمران: 185) (و) هي سبيل (السعادة) في الدارين أي طريقهما لا وصول إليهما إلا بهذه الكلمة، فهي الكلمة التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه، ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة وبها تأخذ الكتب باليمين أو الشمال ويقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود وبعدم إلتزامها البقاء في النار، وبها أخذ الله الميثاق، وعليها الجزاء والمحاسبة وعنها السؤال يوم التلاق. إذ يقول تعالى: (فوربك لنسألهم أجمعين عما كانوا يعملون) (الحجر: 92) وقال تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) (الأعراف: 6) فأما سؤاله تعالى الذين أرسل إليهم يوم القيامة فمنه قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص: 65) والآيات قبلها وبعدها وغير ذلك. وأما سؤاله المرسلين فمنه قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) (المائدة: 109) وغير ذلك من الآيات، وهي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده إن هداهم إليها، ولهذا ذكرها في سورة النحل التي هي سورة النعم، فقدمها أولا قبل كل نعمة، فقال تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا الله أنا فاتقون) (النحل: 2) وهي كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة، وهي أصل الدين وأساسه ورأس أمره وساق شجرته وعمود فسطاطه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها متشعبة منها مكملات لها مقيدة بالتزام معناها والعمل بمقتضاها، فهي العروة الوثقى التي قال الله عز وجل: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا إنفصام لها) (البقرة: 256) قاله سعيد بن جبير والضحاك، وهي العهد الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) (مريم: 87) قال ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: هو شهادة أن لا إله إلا الله والبراءة من الحول والقوة إلا بالله، وأن لا يرجو إلا الله عز وجل. وهي الحسنى التي قال الله عز وجل: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) (الليل: 5- 7) الآيات. قاله أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك ورواه عطيه عن ابن عباس، وهي كلمة الحق التي ذكر الله عز وجل إذ يقول تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (الزخرف: 86) قال ذلك البغوي. وهي كلمة التقوى التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها) (الفتح: 26) روى ذلك ابن جرير وعبد الله بن أحمد والترمذي بأسانيدهم إلى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القول الثابت الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (إبراهيم: 27) أخرجاه في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلا قبل ذلك إذ يقول تعالى: (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) (إبراهيم: 24) قاله علي بن طلحة عن ابن عباس، أصلها ثابت في قلب المؤمن وفرعها العمل الصالح في السماء صاعد إلى الله عز وجل. وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد وهي الحسنة التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (الأنعام: 160) وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) (النمل: 89). قال ذلك زين العابدين وإبراهيم النخعي. وعن أبي ذر مرفوعا " هي أحسن الحسنات " وهي تمحو الذنوب والخطايا. وهي المثل الأعلى الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) (الروم: 27) قال ذلك قتادة ومحمد بن جرير، ورواه مالك عن محمد بن المنكدر. وهي سبب النجاة كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا يقول: " أشهد أن لا إله إلا الله " فقال صلى الله عليه وسلم: " خرجت من النار ". وفيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار " وفي حديث الشفاعة الآتي إن شاء الله تعالى: " أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله. وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ". وهي سبب دخول الجنة كما في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء ". وفي رواية: " أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ". وهي أفضل ما ذكر الله عز وجل به وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة، كما في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كل حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله ". وفيه عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال يا موسى: قل لا إله إلا الله. قال موسى: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله. إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله. وفي الترمذي والنسائي وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وهي التي لا يحجبها شيء دون الله عز وجل، كما في الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه " وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من عبد قال لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش " وهي الأمان من وحشة القبور وهول الحشر، كما في المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله وقد قاموا ينفضون التراب عن رءوسهم يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ". واعلم أن النصوص الواردة في فضل هذه الشهادة كثيرة لا يحاط بها، وفيما ذكرنا كفاية وسنذكر إن شاء الله تعالى عند ذكر شروطها ما تيسر من نصوص الكتاب والسنة، ويكفيك في فضل لا إله إلا الله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعلى جميع شعب الإيمان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " الحديث. وهذا لفظ مسلم. (من قالها) أي قال هذه الكلمة حال كونه (معتقدا) أي عالما ومتيقنا (معناها) الذي دلت عليه نفيا وإثباتا (وكان) مع ذلك (عاملا بمقتضاها) على وفق ما علمه منها وتيقنه، فإن ثمرة العلم العمل به (في القول) أي قول القلب (والفعل) أي عمل القلب واللسان والجوارح قال. الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف: 2- 3) (ومات مؤمنا) أي على ذلك، وهذا شرط لا بد منه فإنما الأعمال بالخواتيم، قال صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ". الحديث في الصحيحين عن أبي ذر بطوله (يبعث يوم الحشر) أي يوم الجمع (ناج) من النار (آمنا) من فزع يوم القيامة، كما قال تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومك الذي كنتم توعدون) (الأنبياء: 101- 103) وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) (النمل: 89). معنى شهادة أن لا إله إلا الله فإن معناها الذي عليه *** دلت يقينا وهدت إليه أن ليس بالحق إله يعبد *** إلا الإله الواحد المتفرد بالخلق والرزق وبالتدبير *** جل عن الشرك والنظير (فإن معناها) أي معنى هذه الكلمة (الذي عليه) متعلق بقوله (دلت) بصريح لفظها (وهدت) أي أرشدت (إليه) هو (أن ليس بالحق) متعلق بيعبد (إله) هو اسم ليس ومنفيها والنكرة في سياق النفي تعم، والحكم المنفي (يعبد) الذي هو متعلق بالحق والاستحقاق فيخرج ما عبد بباطل، ولذا سماه المشركون إلها، فتسميته بذلك باطلة فلا يستحق أن يعبد فمعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله، لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله فلا يستحق أن يعبد إلا الله مثبتا العبادة لله فهو الإله الحق المستحق للعبادة، فتقدير خبر لا المحذوف بحق هو الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة كما سنوردها إن شاء الله، وأما تقديره بموجود فيفهم منه الاتحاد، فإن الإله هو المعبود، فإذا قيل لا معبود موجود إلا الله، لزم منه أن كل معبود عبد بحق أو باطل هو الله، فيكون ما عبده المشركون من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والأحجار والملائكة والأنبياء والأولياء وغير ذلك هي الله، فيكون ذلك كله توحيدا فما عبد على هذا التقدير إلا الله إذ هي هو، وهذا والعياذ بالله أعظم الكفر وأقبحه على الإطلاق، وفيه إبطال لرسالات جميع الرسل وكفر بجميع الكتب وجحود لجميع الشرائع وتكذيب بكل ذلك وتزكية لكل كافر من أن يكون كافرا إذ كل ما عبده من المخلوقات هو الله فلم يكن عندهم مشركا بل موحدا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. فإذا فهمنا هذا فلا يجوز تقدير الخبر موجود إلا أن ينعت اسم لا بحق فلا بأس ويكون التقدير لا إله حقا موجود إلا الله، فبقيد الاستحقاق ينتفي المحذور الذي ذكرنا. (إلا الإله الواحد المنفرد. بالخلق والرزق وبالتدبير. إلخ) وهو الله سبحانه وتعالى، أي هو الإله الحق، فكما تفرد تعالى بالخلق والرزق، والإحياء والإماتة، والإيجاد والإعدام، والنفع والضر، والإعزاز والإذلال، والهداية والإضلال، وغير ذلك من معاني ربوبيته ولم يشركه أحد في خلق المخلوقات ولا في التصرف في شيء منها وتفرد بالأسماء الحسنى والصفات العلى ولم يتصف بها غيره ولم يشبهه شيء فيها، فكذلك تفرد سبحانه بالإلهية حقا فلا شريك له فيها: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) (لقمان: 30). (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) (المؤمنون: 91). (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) (الأنبياء: 21). (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) (الإسراء: 42). (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا الله وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) (المائدة: 73) (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم) (آل عمران: 62). (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران: 64). (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) (الزمر: 38) (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) (فاطر: 40). (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) (الأحقاف: 4). (قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دون الله أولياء لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) (الرعد: 16). (قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار) (ص: 65). شروط شهادة أن لا إله إلا الله وبشروط سبعة قد قيدت *** وفي نصوص الوحي حقا وردت فإنه لم ينتفع قائلها *** بالنطق إلا حيث يستكملها (وبشروط سبعة) متعلق بقيدت (قد قيدت) أي قيد بها انتفاع قائلها بها في الدنيا والآخرة من الدخول في الإسلام والفوز بالجنة والنجاة من النار. وفي نصوص الوحي من الكتاب والسنة (حقا وردت) صريحة صحيحة (فإنه) أي الشأن وذلك علة تقييدها بهذه الشروط السبعة (لم ينتفع قائلها) أي قائل لا إله إلا الله (بالنطق) أي بنطقه بها مجردا (إلا حيث يستكملها) أي هذه الشروط السبعة، ومعنى استكمالها اجتماعها في العبد والتزامه إياها بدون مناقضة منه لشيء منها، وليس المراد من ذلك عد ألفاظها وحفظها فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك. وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم وتراه يقع كثيرا فيما يناقضها، والتوفيق بيد الله، والله المستعان. والعلم واليقين والقبول *** والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبة *** وفقك الله لما أحبه هذا تفصيل الشروط السبعة السابق ذكرها التي قيدت بها هذه الشهادة، فأصغ سمعك وأحضر قلبك لإملاء أدلتها وتفهمها وتعلقها، ثم اعمل على وفق ذلك تفز بسعادة الدنيا والآخرة إن شاء الله عز وجل، كما وعد الله تعالى ذلك إنه لا يخلف الميعاد: الأول (العلم) بمعناها المراد منها نفيا وإثباتا المنافي للجهل بذلك، قال الله عز وجل: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) (محمد: 19) وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق) (الزخرف: 86) أي بلا إله إلا الله. (وهم يعلمون) بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (آل عمران: 18) وقال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) (الزمر: 9) وقال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر: 28) وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت: 43) وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ". (واليقين) أي والثانى اليقين المنافي للشك بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلول هذه الكلمة يقينا جازما، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، فكيف إذا دخله الشك؟! قال الله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا في سبيل الله)- إلى قوله- (أولئك هم الصادقون) (الحجرات: 15) فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا؛ أي لم يشكوا، فأما المرتاب فهو من المنافقين- والعياذ بالله- الذين قال الله تعالى فيهم: (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) (التوبة: 45) وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " وفي رواية: " لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة " وفيه عنه رضي الله عنه من حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بنعليه فقال: " من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة " الحديث. فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط. (و) الثالث (القبول) لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها وانتقامه ممن ردها وأباها، كما قال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) (الزخرف: 23- 25) وقال تعالى: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين) (يونس: 103) وقال تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) (الروم: 47) وكذلك أخبرنا بما وعد به القابلين لها من الثواب، وما أعده لمن ردها من العذاب، كما قال تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون)- إلى قوله- (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) (الصافات: 22- 36) فجعل الله تعالى علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، تكذيبها وتكذيبهم من جاء بها فلم ينفوا ما نفته ولم يثبتوا ما أثبتته، بل قالوا إنكارا واستكبارا: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) (ص: 5- 7) وقالوا هاهنا: (أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) فكذبهم الله عز وجل ورد ذلك عليهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) (الصافات: 37) إلى آخر الآيات. ثم قال في شأن من قبلها: (إلا عباد الله المخلصين ألئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم) (الصافات: 41) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) (النمل: 89) وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ". (و) الرابع (الانقياد) لما دلت عليه المنافي لترك ذلك قال الله عز وجل: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) (الزمر: 54) وقال تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) (النساء: 125) وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) (لقمان: 22) أي بلا إله إلا الله (وإلى الله عاقبة الأمور) ومعنى يسلم وجهه؛ أي ينقاد وهو محسن موحد، ومن لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسنا فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، وهو المعني بقوله عز وجل بعد ذلك: (ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبؤهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) (لقمان: 23- 24) وفي حديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " هذا هو تمام الأنقياد وغايته. (و) الخامس (الصدق) فيها المنافى للكذب، وهو أن يقولها صدقا من قلبه يواطيء قلبه لسانه قال الله عز وجل: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (العنكبوت: 1- 3) إلى آخر الآية. وقال تعالى في شأن المنافقين الذين قالوها كذبا: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) (البقرة: 8- 11) وكم ذكر الله تعالى من شأنهم وأبدى وأعاد وكشف أستارهم وهتكها وأبدى فضائحهم في غير ما موضع من كتابه كالبقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة وسورة كاملة في شأنهم وغير ذلك. وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار " فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقا من قلبه، فلا ينفعه مجرد اللفظ بدون مواطأة القلب. وفيهما أيضا من حديث أنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما من قصة الأعرابي وهو ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام فأخبره. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق "، وفي بعض الروايات: " إن صدق ليدخلن الجنة " فاشترط في فلاحه ودخول الجنة أن يكون صادقا. (و) السادس (الإخلاص) وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تبارك وتعالى: (ألا لله الدين الخالص) (الزمر: 3) وقال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) (البينة: 5) الآية. وقال تعالى: (فاعبد الله مخلصا له الدين) (الزمر: 2) وقال تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (الزمر: 11) (قل الله أعبد مخلصا له ديني) (الزمر: 14) وقال تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين) (النساء: 146) وغير ذلك من الآيات. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه " وفي الصحيح عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل ". وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قال عبد قط لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر " قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وللنسائي في اليوم والليلة من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مخلصا بها قلبه يصدق بها لسانه إلا فتق الله لها السماء فتقا حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤله ". (و) السابع (المحبة) لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك، قال الله عز وجل: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) (البقرة: 165) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (المائدة: 54) فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حبا له، وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحدا كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أندادا يحبونه كحبه، وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من وإلى الله ورسوله ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره وقبول هداه. وكل هذه العلامات شروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها. قال الله تبارك وتعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) (الفرقان: 43) الآيات. وقال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) (الجاثية: 23) فكل من عبد مع الله غيره فهو في الحقيقة عبد لهواه، بل كل ما عصى الله به من الذنوب فسببه تقديم العبد هواه على أوامر الله عز وجل ونواهيه. وقال تعالى في شأن الموالاة والمعاداة فيه: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) (الممتحنه: 4) الآية. وقال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) (المجادلة: 22) الآية. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51) الآيات. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن إستحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) (التوبة: 23- 24) الآيتين. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) (الممتحنه: 1) إلى آخر السورة، وغير ذلك من الآيات. وقال تعالى في اشتراط اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) (آل عمران: 31) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " أخرجاه من حديث أنس رضي الله عنه. وفيهما عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". وفي كتاب الحجة بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " وذلك الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الخبر عن الله والأمر بما يحبه الله ويرضاه، والنهي عما يكره ويأباه، فإذا امتثل العبد ما أمره به واجتنب ما نهى الله عنه وإن كان ذلك مخالفا لهواه كان مؤمنا حقا، فكيف إذا كان لا يهوى سوى ذلك. وفي الحديث: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض فيه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب في الله وأبغض في الله وو إلى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك. وقد أصبح غالب مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: ادعى قوم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله بهذه الآية: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا فليح قال: حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ". قال حدثنا محمد بن عبادة أخبرنا يزيد حدثنا سليم- وأثنى عليه- حدثنا سعيد بن ميناء حدثنا- أو سمعت- جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: إن مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس. ومن هنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله عز وجل إلا بمحبة ما يحبة وكراهة ما يكرهه فلا طريق إلى معرفة ما يحبه تعالى ويرضاه وما يكرهه ويأباه إلا باتباع ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتناب ما نهى عنه، فصارت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن محبته بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله عز وجل: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24) وغير ذلك من الآيات. ثم اعلم أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب لدخول الجنة والنجاة من النار لا تناقض بينها وبين أحاديث الوعيد التي فيها: من فعل ذنب كذا فالجنة عليه حرام، أو لا يدخل الجنة من فعل كذا، لإمكان الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن أهل الجنة أيضا متفاوتون في دخول الجنه في السبق وارتفاع المنازل، فيكون فاعل هذا الذنب لا يدخل الجنة التي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب، وهذا واضح مفهوم للعارف بلغة العرب. وكذلك لا تناقض بين الأحاديث التي فيها تحريم أهل هاتين الشهادتين على النار وبين الأحاديث التي فيها إخراجهم منها بعد أن صاروا حمما لإمكان الجمع بأن تحريم من يدخل بذنبه من أهل التوحيد بأن تحريمه عليها يكون بعد خروجه منها برحمة الله ثم بشفاعة الشافعين، ثم يغتسلون في نهر الحياة ويدخلون الجنة فحينئذ قد حرموا عليها فلا تمسهم بعد ذلك. أو يكون المراد أنهم يحرمون مطلقا على النار التي أعدت للكافرين التي لا يخرج منها من دخلها، وهي ما عدا الطبقة العليا من النار التي يدخلها بعض عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله تعالى عقابه وتطهيره بها على قدر ذنبه، ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد. وهذه إشارة كافية في هذا الموضع، وسنذكر إن شاء الله تعالى بسط ذلك في موضعه عند ذكر الشفاعات، ونذكر الأحاديث التي فيها هذا وهذا، والأحاديث التي يكون بها الجمع بين ذلك، وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في هذا الباب كلاما حسنا بعد سياقه حديث معاذ وحديث أبي ذر وحديث عبادة وقد تقدمت مع غيرها من الأحاديث. قال: وأحاديث هذا الباب نوعان: أحدهما ما فيه أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ولم يحجب عنها، وهذا ظاهر، فإن النار لا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص، بل يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طهر من ذنوبه بالنار، وقد يعفو الله عنه فيدخله الجنه بلا عقاب قبل. وحديث أبي ذر معناه أن الزنا والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد، وهذا حق لا مرية فيه، وليس فيه أن لا يعذب عليها مع التوحيد، وفي مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: " من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر يصيبه قبل ذلك ما أصابه ". الثاني فيه أن يحرم على النار، وقد حمله بعضهم على الخلود فيها أو على ما يخلد فيها أهلها. وهي ما عدا الدرك الأعلى من النار، فإن الدرك الأعلى يدخله كثير من عصاة الموحدين بذنوبهم ثم يخرجون بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين. وفي الصحيحين: " إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله ". وقالت طائفه من العلماء المراد من هذه الأحاديث أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنه والنجاة من النار ومقتضى لذلك، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع، وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو أظهر، وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العدة، لكن للا إله إلا الله شروطا فإياك وقذف المحصنات. وقيل للحسن: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك. وهذا الحديث: " إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله " أخرجه الإمام أحمد بإسناد منقطع عن معاذ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا سألك أهل اليمن عن مفتاح الجنة فقل: لا إله إلا الله " ويدل على هذا كون النبي صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنه على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص، كما في الصحيحين عن أبي أيوب أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة. قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، دلنى على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " فقال الرجل: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ". وفي المسند عن بشير بن الخصاصية قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة وأحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله. فقلت: يا رسول الله، أما اثنتين فوالله ما أطيقهما؛ الجهاد والصدقة. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال: " فلا جهاد ولا صدقة! فبم تدخل الجنة إذا؟ " قلت أبايعك، فبايعته عليهن كلهن ". ففي الحديث أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج، ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتى الشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا بمجرد ذلك، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة. وفهم الصديق رضي الله عنه أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وقال: الزكاة حق المال. وهذا الذي فهمه الصديق رضي الله عنه قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا غير واحد من الصحابة، منهم ابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم، وأنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ". ودل على ذلك قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) (التوبة: 5) الآية. ولا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد. ولما قرر أبو بكر رضي الله عنه هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوه صوابا، فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترتفع عمن أدى الشهادتين مطلقا، بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام، فكذلك عقوبة الآخرة. وقد ذهب طائفة إلى أن هذه الأحاديث المذكورة أولا وما في معناها كانت قبل نزول الفرائض والحدود، منهم الزهري والثورى وغيرهما، وهذا بعيد جدا فإن كثيرا منها كانت بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك وهي في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء منهم من يقول: هذه الأحاديث منسوخة، ومنهم من يقول هي محكمة، ولكن ضم إليها شرائط، ويلتفت هذا إلى أن زيادة النص هل هي نسخ أم لا؟ والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور، وقد صرح الثوري بأنها منسوخة وأنه نسختها الفرائض والحدود، وقد يكون مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح، فإن السلف كانوا يطلقون النسخ على مثل ذلك كثيرا ويكون مرادهم أن آية الفرائض والحدود تبين توقف دخول أهل الجنة والنجاة من النار على فعل الفرائض واجتناب المحارم، فصارت النصوص منسوخة؛ أي مبنية مفسرة ونصوص الحدود والفرائض ناسخة؛ أي مسفرة لمعنى تلك النصوص موضحة لها. وقالت طائفة: تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة في أحاديث أخر، ففي بعضها: " من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة " وفي بعضها: " مستيقنا " وفي بعضها: " مصدقا بها قلبه لسانه " وفي بعضها: " يقولها من قلبه " وفي بعضها: " قد ذل بها لسانه واطمأن بها قلبه ". وهذا كله إشارة إلى عمل القلب وتحققه بمعنى الشهادتين، فتحققه بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يأله قلبه غير الله حبا ورجاء وخوفا وطمعا وتوكلا واستعانه وخضوعا وإنابة وطلبا. وتحققه بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبد بغير ما شرعه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى جاء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة " قيل: ما إخلاصها يا رسول الله؟ قال: " أن تحجزك عما حرم الله عليك ". وهذا يروى من حديث أنس بن مالك وزيد بن أرقم ولكن إسنادهما لا يصح. وجاء أيضا من مراسيل الحسن نحوه، وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد " لا إله إلا الله " يقتضي أن لا إله غير الله، والإله الذي يطاع ولا يعصى هيبة وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله لغير الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قوله لا إله إلا الله ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك، ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشأها من طاعة غير الله عز وجل أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل، كما ورد إطلاق الكفر والشرك على الربا وعلى الحلف بغير الله عز وجل وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه وعلى من سوى بين الله وبين المخلوق في المشيئة مثل أن يقول: ما شاء الله وما شاء فلان، وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت، وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر كالطيرة والرقى المكروهة وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون. كذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادح في تمام التوحيد وكماله، ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التى منشأها من هوى النفس أنها كفر وشرك، كقتال المسلم، ومن أتى حائضا أو امرأة في دبرها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة وإن كان ذلك لا يخرجه من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف: كفر دون كفر وشرك دون شرك، وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) (الفرقان: 43) قال الحسن رحمه الله: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه، وقال قتادة: هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع. وروي من حديث أبي أمامة مرفوعا بإسناد ضعيف: " ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع ". وفي حديث آخر: " لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن أصحابها حتى يؤثروا دنياهم على دينهم، فإذا فعلوا ذلك ردت عليهم ويقال لهم كذبتم ". ويشهد لهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش " فدل هذا على أن من أحب شيئا وأطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، وو إلى لأجله وعادى لأجله، فهو عبده، وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه. ويدل عليه أيضا أن الله تعالى سمى طاعة الشيطان في معصيتة عبادة للشيطان، كما قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) (يس: 60) وقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم عليه السلام لأبيه: (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) (مريم: 44) فمن لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته، فإنه يعبد الشيطان بطاعته، ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن، وهم الذين قال فيهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (الحجر: 42) فهم الذين حققوا قول لا إله إلا الله وأخلصوا في قولها وصدقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا، وهم الذين صدقوا قول لا إله إلا الله، وهم عباد الله حقا، فأما من قال لا إله إلا الله بلسانه ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته، فقد كذب قوله فعله ونقص من كمال توحيده بقدر معصيته الله في طاعة الشيطان والهوى، (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) (القصص: 50)، (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (ص: 26). ثم قال رحمه الله: فيا هذا كن عبدا لله لا عبدا للهوى، فإن الهوي يهوي بصاحبه في النار، (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (يوسف: 39)، " تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار ". والله لا ينجو من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار، من علم أن إلهه ومعبوده فرد فليفرده بالعبودية ولايشرك بعبادة ربه أحدا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
|